غريب عسقلاني**
"جسد سابح في فضاء لا أرض له، روح هائمة في الضيق كأنها جنيّ يتنقل وهو محبوس في قمقم، الذراع جناح، والساق مجداف، والدروب متشعبة".
مع هذه الصورة البصرية يمضي بك فيصل حوراني إلى فراغه، تعاين السماء لتهبط مع كائن طائر، قد يتبدى لك جنياً أو مارداً أو مسخوطاً يهبط في لحظة غير محسوبة، يرتطم بالأرض فيتصدع عنه القمقم، وتنفلت روحه إلى درب مختزن في الذاكرة منذ ست وأربعين سنة، هو درب الحكاية التي تبدأ مع طفل العاشرة الذي كأنه الراوي فيصل، وقد فقد عينه في المعمعة الأولى، هكذا يفضل أن يوصفها ـ أقصد المعمعة ـ أول قل يصدقها حتى لا يكون مبرر ضياع العين بخساً.
يتيم في كنف زوج أمه هاجر إلى غزة في الهجيج الكبير، عندما تشظت الحَمُولة وتبعثرت في الدروب البعيدة عن مسقط الرأس الـمَسْمِيَّة، الحمولة فقدت الأرض وظلت على أعراف القبيلة الراسخة، الاعتراف انتزعته من حضن الأم إلى حضن الجد لمبررات اللقب والنسب والأولوية، وصار هو المنذور للرحلة بقوانين الوصية والوصايا، فانتقل من غزة إلى هناك/ الشام، وصار يتيم الأب بالأقدار، ويتيم الأم بالفراق. وحيداً بعيداً عن أخوته من أمه، يسمع بهم ولا يراهم، وشيجته الوحيدة رباح توأمه في الشكل، وكأن الأم الباقية في بعض الوطن أدركت بغريزة حب البقاء معنى الفراق، فأطلقت بويضة ليبقى رباح وأطقلت بويضة ليكون فيصل هناك لا تدري من منهما الباقي والمطارد من الراحل ومن العائد.
ما أطول الرحلة يا أمي
وكيف لفقير أن يتفرد ويتمايز،.. يتكئ على عينه اليتيمة مشطوراً بين عتمة وضوء، ويسمع بأذنه السليمة بعد صيام الأخرى، محكوم بالدوران في الضيق يترصد الأصوات في الجهات الأربعة، فيدرك أن الدوران على نقطة ارتكاز واحدة سيأخذ فقرات الظهر إلى التكلس، فلا تستجيب للانثناء، وتشاكس في القيام والهجوع. أي قمقم أضيق من هذا الضيق، وأي حنين ذلك الذي يحمل الحكاية ويغلفها بالبهاء؟!
هو الوطن بلا ريب.
فأي وطن هذا الذي..
"أسكنت وطني في روحي، وفردت له مساحة الروح، وفيها نميته كما ينبغي لأي وطن أن ينمو، وجمّلته.. ونقلت وطني معي كلما انتقلت، ولأن من أقصاني عن وطني أقصى وطني عن وطنه فقد عشنا معاً، غريب ووطنه الغريب".
تُختزل الجغرافيا المفقودة، نذهب إلى بؤرة الروح، تسكن ولا تبارح والوطن على خط الرحلة، والأزمنة حصار يتلو الحصار، يتحول الوطن إلى تباريح مجروح معنىّ.. يتصدى العقل لحالات الروح ويفقد الاستجابة للألفة مع الأماكن، يتجنبها أو قل يخاف من تبعات الألفة معها، فتراه يحل في الأمكنة ويرحل عنها ولا يبقى له فيها ما يشده إليها.
هو الغريب اليقظ، المتوجس الحرون في مواجهة الدهشة وهو الذي خبر المدهشات، دهشته مؤجلة حتى يرى وطن الروح وقت التقى مع وطن الأرض.. دهشة التطابق والاختلاف، دهشة الحضور في الغياب، والنمو بعيداً عن عناصر النماء وتفريع الأغصان في حيز لا هو بالفضاء ولا هو الفراغ، وتمدد الجذور في رمال ليست من صخر أو تراب.
تلك هي الدهشة المؤجلة
وها هي قد اقتربت، سيلتقي بوطنه بعد ست وأربعين سنة وسيرتمي في حضن أم شابة شامخة، تعيد إليه من عافية صباها ما ضاع منه في المعامع الكبرى والصغرى.
لم لا وهو العازف المتفرد، لا يطلق لحناً نشازاً، ولا يتستر على الأخطاء، ولا يعزف في الحجرات المغلقة، لا يعزف على سيف، سيفه قلمه يترصد الوقت والفكرة.
ولأن اللحظة والفكرة هما الوطن، فإنه لم يتوقف عن العزف، ذلك قدره وتلك مساحته التي صارت في المنفى وطنه حتى يعود، يلوذ بقلمه/ سيفه كلما نأى الوطن أو اقترب، يؤرقه السؤال متى؟ وكيف؟ ومن يترصد من؟ وطن الذاكرة الذي نما أم وطن الواقع الذي تغير في الخارطة؟ وطن القضية أم قضية الساسة وبعض الثوار الذين نخر فيهم سوس الوقت وأخذ منهم الإعياء واللهاث كل ما أخذ؟ وطن الثورة أم وطن الاتفاقات السرية في الدهاليز السوداء، وطن الاتفاق الأخير، أو السقطة الأخيرة في أوسلو؟.
"لم أجد في اتفاق أوسلو ما يوفر أُسس العدل والاستقرار، امتص الاتفاق كل قطرة من ضرع القيادة الفلسطينية، وكبل القيادة بحزم من القيود".
يجن المُعنّى صراخاً
وطن الروح في ضيق يحتج، فالجميل لا يليق به قطار أوسلو واسطة/ وسيلة إلى الوطن.
عقل العازف يصعد على حذره، فهو يرى بما لا يدع مجالاً للشك أن المجازفة غير مضمونة هذه المرة، ومن الخطأ أن يقدم الفلسطينيون على ما قد يقودهم إلى هلاكهم هي معمعة إذن، ولكن مع من؟ مع ذوي القربى، ورفاق الخندق الواحد. والسؤال يصدع أركان العقل..
لماذا أُبرم الاتفاق في الخفاء؟ ولماذا تحايلتم على أنظمة الهيئات الفلسطينية المخولة بذلك؟ سؤال يطلقه في وجه القائد. والمعامع في تاريخ العازف تجدد الروح، ولكن الأمر نفذ ومضى القطار بالرجال إلى هناك، وأصبحوا سلطة، وللسلطة سلاطين حول سلاطين، آه يا وجع الروح، من سلوك ناس القيادة، وناس الحلقات التي تتمتع بحمايتها، آه من أصحابي بين هؤلاء وهؤلاء.
ناس السلطة استبدلوا سلوكاً بسلوك، وراية براية، واستبعدوا الضغط المادي على العدو وأفرطوا في اللين، واشتد هوسهم في إظهار التسامح. فيا سيفي/ قلمي.
ما خذلتك يوماً، وما خذلتني، ويا قراطيس الورق، ويا صفحات المنابر، فليس من الجائز وليس من العدل أن "انتقد القيادة وأغفل المسؤول الأول صاحب القرار، ما أشد ما قسوت في انتقاد ياسر عرفات". وما أشد ما عانيت.
هل تخطيت شرط العلاقة وتجاوزت بنود العقد مع القيادة، وأنا المقتصد في كل شرط خاص ما عدا شرط حريتي كعازف منفرد معلن. طوردت ولم أطرد. عوقبت ولم أجلد. ذهبوا ولم أحصل على بطاقة وصول. دخلوا بأرقام ولم يظهر رقمي الوطني في وطني. صديقي الذي أسميه هنا عائد يعرف ما أعرف، يفح في وجهي: الجم لسانك ودع الباقي عليّ، أضمن لك استئناف دفع رواتبك و"العودة".
عذابي أنهم هناك والألفة مع أمكنتي انعدمت، أصدقائي وربعي، وابنتي وزوجها، وأخوتي كلهم هناك، وحرماني الأول أمي هناك.
ـ لا تتأخر، ارجع قبل أن أموت.
ـ لا تموتي يا أمي قبل أن أصل إلى البلاد.
ـ إذن عجل عودتك!
كيف والوطن نأى وابتعد، والدخول إليه بمفتاح أوسلو، والسلطان أغمض عينه غاضباً أو معاقباً، أو مجافياً ربما، والرقم الوطني لم يسجل في سجلات العائدين. تلك معمعة.
لا بد أن تكون هناك لتعزف لجمهور طالما حننت إليه، الوصول إلى هناك معمعة اعتراضية، ولكنها في نخاع الأصل والموضوع.
وفي الطريق إلى هناك، تتوقف عقارب الساعة الزمنية، ويضبط الوقت على إيقاع آخر، إيقاع القهر والإذلال، وسحب الروح من روحها، إيقاع الترويض والاحتقار، قبل العبور من البرزخ/ الجسر الفاصل بين الضفتين.
"رجل أمن لا يحمل سلاحاً ظاهراً، صعد، وصعد معه احتقاره الظاهر وبغضه لركاب الباص، الذي لا يتستر عليه". ماذا تتوقع من الآخر يا فيصل؟!
ألست من عارض الاتفاقية التي امتصت ضرع القيادة، والذي يمتص ضرع القيادة، يلتهم عافية الإنسان الفلسطيني، هل يصلح هذا العدو لأن يصبح شريك سلام.
هل هو العدو الذي تخيله العقل الفلسطيني في الشتات، وشكله نموذجاً على هواه وافتراضاته هو المؤسسة العسكرية التي تمتهن احتراف القتل، عصابة مهووسة بالمطاردة الساخنة للمناضلين في الداخل والخارج، وكأن الأرض التي صادق عليها كبار العالم "وطناً" اسمه إسرائيل لا يضم مجتمعاً قائماً على منظومات في قيم وأفكار، يستثمر المعرفة والعلم والتكنولوجيا في خدمة مشروعة وبرامجه. هل غامت إسرائيل المجتمع/ المؤسسة المدنية والتربوية عن معاينات المثقف الفلسطيني ما جره إلى وهم لا يقل عن وهم وطن الروح الذي نما وترعرع بعيداً غريباً عن الوطن.
على الطرف الآخر عدو متخيل ومفترض محصور في رؤية الصراع الميداني وسجلات ما بعد المعارك.
هل هي ضربة الروح وقد تشوه وطن الحلم عن وطن الجغرافيا والطبوغرافيا التي تبدلت خلال نصف قرن ما عمق الاغتراب ونقر على قشرة الدماغ سؤالاً كبيراً؟ أين هو الوطن، وكيف تبدلت الحقائق؟
نصف قرن من المتغيرات المذهلة اختصرت قروناً من أزمنة سابقة.
ربما يا فيصل إفراط القيادة وناسها باللين مرده الصدمة بما هو قائم، الدهشة من منجزات العدو في الوطن، ما أخرج الوطن من الوطن. فهل ما زال وطن الروح هو الأبهى والأجمل..، أما العدو القائم هناك فتلك قصة أخرى.
اعتقد يا فيصل أن قصور الإمكانيات واهتزاز الوعي أوقع القيادة وناسها في البلبلة والارتباط، فلجأوا إلى الطريق السهل، اللين والتسامح لدرجة الإفراط، ما بدل الرايات وغير السلوك، فأصبحت الأسواق والشواطئ والفنادق الإسرائيلية محج متعة ومستراح راحة وكأننا في وطنين، وطن لنا نحن فيه، ووطن لنا ولكنه معهم، بل قل تدحرجت القناعات عند البعض فاستجابوا إلى وطن الاتفاقية. ولا بأس أن نزاول الوطن في الحلم، الحلم فقط، أو لسنا أحفاد العرب الأوائل صبيان عكاظ، ومروجي حماسيات المربد، والمولهين بأعاجيب ألف ليلة وليلة.
وطن الروح الذي كبر وتجمل في الغربة حتى اغترب عن وطنه، والعدو النموذج الذي وضعنا نحن مواصفاته فأصبح مجافياً للعدو الذي يقيم على الأرض، وشغل الحيز الواحد، الحيز عند العدو لا يستوعب غير اليهودي وما عداه على الأرض نشاز يستحق الاحتقار.
الاحتقار عند الصهيوني عاطفة وغريزة مثل الغضب والجوع، الاحتقار عندهم ليس وظيفة يا صديق.
هل أخذتك الحيرة وأنت الباحث عن الإنسان في الإنسان، حتى لو كان عدوا هل رأيت كيف أفسدت المؤسسة الصهيونية الإنسان في فتاة المعبر؟: "شو أنت ما بيفهم، حمار إنت خل شنته، وانكلع".
جوهر الموضوع أن المحتل جائر، والواقع تحت الاحتلال ضحية، إنها حرب الطمع ضد العراقة، انتصر فيها الطمع. اختزال الوضع بين الطمع والعراقة!!
ما هي مفاعيل الطمع وآلياته، ومكونات بطشه. وماذا بقي من العراقة من منجز علمي ومعرفي، والوقت عصر مكتشفات وانبثاق وسائل وتبلور نظريات وطمس هويات، وقتل أفكار ورؤى، وضياع فلسفات، وانهيار أنظمة وإمبراطوريات وتنامي عصابات لصوص المال في مواجهة جحافل الأصوليات التي أغلقت عيونها لدرجة العمى عن أصول اللعب في هذا العصر.
هي اللعبة التي سقطت في براثنها المنظومة الفلسطينية/ المؤسسة/ القيادة.. سقطت في أوسلو المتفق عليها والمختلف فيها.
هي الصدمة من معايشة وطن الواقع، وعدو الواقع، صدمة أعجزت القيادة عن المراجعة، فانساق اللاعبون بذات الأدوات ما قاد إلى خراب تأسس على خراب.
لعلك استنتجت أن فتاة المعبر تمارس الاحتقار وظيفة، وأنا أعتقد أنها تؤدي الاحتقار غريزة لا إرادية، فكيف اندهشت وأنت المحصن ضد المدهشات.
"لم أصدق أن فتاة في أوسلو عشرينات عمرها جميلة ورشيقة وبارزة الأناقة يمكن أن تظهر لمسافر كل ما أظهرته فتاة الأمن الإسرائيلية من بغض واحتقار ما لم توجب وظيفتها عليها إظهاره".
ولأنك المحصن ضد المفارقات، حاولت جهدك الإفلات من مطب المفارقة مع ضابط الأمن الإسرائيلي، وكأنك ترد احتقار المجندة لك. فهل اتخذت أنت أيضاً الاحتقار وسيلة حرب بيننا وبينهم.
أعي مقدار وعيك، وأنت المفكر الذي تخطى مطبات الأطروحات على الساحة الفلسطينية، وبادرت مبكراً برؤية لا ترفض الحوار مع العدو، ولا ترفض منطق الحل السلمي، فأنت البصير بما كانت تخبئه الأيام. ولكن قطار أوسلو تحرك في اتجاه معاكس لما رأيت، فأنت الباحث عن التكافؤ، وهذا لم يتوفر في لقاء ضابط الأمن الإسرائيلي في المعبر.
"الطيبون وغير الطيبين من الناس يتعارفون في ظروف متكافئة، يتبادلون الآراء برغبتهم، وليس بالإكراه، بالإكراه يصير للأشياء أسماء قبيحة، أنت تعرف. وأنا لم ألتق بك برغبتي فأنت الذي...".
الحوار مرفوض في ظل المعطيات الموجودة، معطيات التسليم بشروط عدم التكافؤ. وعبرت إلى الوطن.
لترى أي سوق الذي اندفع إليه ناس السلطة، وأي وجع هذا الذي يفتت الكبد ويشوي الروح، وأنت من تمتعه المعامع، وتجدد الق روحة، تخوض بأسلحتك أنت وبحساباتك أنت، تنتصر للوطن قبل أن تنتصر لذاتك وترفع القبعة لمن يكسف السجال. في معركة الوطن لا ترفع القبعة للعدو لأن الخسارة هي الوطن.
وعبرت ببرزخ الجسد بين الضفتين.
وفي الطريق إلى غزة، انتصب الاختبار الأول عندما أصبحت على مشارف القدس، تخزك السؤال في عين الخاصرة، وأدماك، غافل عقلك إلى رقائق الروح، هذه القدس غير ما احتفظ به بين الشفاف، أطبقت عينك وانحزت، قل اعتصمت بقدس الروح المحشورة في الضيق.
وعندما خفف السائق السرعة عند المواقع والبلدات والقرى، غادرتك الرغبة في الأشواق، طلبت منه أن ينطلق إلى المعبر الآخر.
مطارد بين بلدين
والتصريح لا يسمح بالتوقف، أو الترجل، تبقى في صندوق متحرك لا تترجل، ولا تعفر قدميك بتراب، ينشر العبق القديم، يدق رأسك ما يسوطك كي تعجل، أمك تشدك إليها.
"أنت تأخرت على كل حال، الذين سبقوك لم يبقوا لك منصباً تشغله، أو شيئاً تسرقه" هل تدركين يا أمي أن أرفع منصب تقلدته هو منصب المنفي المشاكس، وأغلى شيء سرقته هو عمري الذي ضاع في الانتظار عند محطات العودة.. آه يا وجع البدن ووجع الروح.
"أمي والوطن في يوم واحد، إني محتاج إلى أم تحدب علي وإلى وطن أحظى فيه بما يخصني، وها أنا قد رجعت، فهل ظفرت بما أحتاج إليه؟".
التقيت بأمك في المنافي أربع مرات، شاخت وأصبحت أكثر بهاء، رأيتها كيف تقدمت في العمر، تحسست فيك الصبي شاباً، دورته السنون وأخذت منه ما أخذت، وأعطته ما يمكن لأم أن تباهي به، لؤلؤة الوطن مخبوءة في ثنايا الروح، وأنت المقاتل، المقامر والمشاكس.
أما الوطن فقد ظل صامتاً، حفرته أنياب الجرافات أو غيرت صورة وجهه، نزعت منه فطرته، وأعادت ترتيب الأشياء فيه، أبقت على بقايا مقابر، وبقايا منازل وبنايات، تتغذى عليها أشواك العوسج مع كل زخة مطر، صارت البقايا مهاجع للديدان والجرابيع وفروخ الثعابين وهوام الرطوبة، حتى مدرستك، التي تعلمت في أكنافها أول حروف الهجاء، ونقشت على صفحات دفاترتك أول دروسها، مدرستك تحولت إلى مأوى جنود أو مطخ يتدرب فيه من سيركبون الحديد إلى الوطن المحرر يتدربون على القتل، وأنت القتيل وأنت الشهيد، وصاحب الشهادة في حكاية العودة. هذا الوطن الذي رجعت إليه، وذاك الوطن الذي تربيت وإياه في المنافي، لمن الحنين، وكيف، وهل من تطابق؟! هي الرجعة إذن. أم هي الصفعة؟
"لقد أنشأنا في الذاكرة وطناً جميلاً، وجعلناه أجمل الأوطان، وهذا ما لم يجده عائد إلى الوطن الباقي فعلاً". هي المعضلة التي كرسها المنفى، ولكي ينتهي المنفى.
"علينا أن ننتقل من وطننا إلى وطننا، أن ننهي ازدواجية الوطن".
ذلك هو السؤال الكبير كما تقول يا فيصل.
هل الذي وقعت عليه وأنا أقترب من الشيخوخة هو الوطن الذي ننتهي فيه غربة امتدت منذ الطفولة؟ وما هو الوطن، وكيف سأستقر ما دمت أشعر بأن ما عدت إليه ليس هو الوطن الذي طالما حننت إلى العودة إليه، وما الذي سيعيدني إلى المسمية والوطن الذي أنشأته الروح".
وماذا عن الأم التي ما غادرت القلب واستعصت على المخيلة، هي الباقية تمد حبلها السري غير المنظور، وهذا أنت تخرج لتعود عائداً مع رقمك الوطني، وأنت من يدري أن الأم هي في الأصل الهوية. ولأن الهوية في دائرة التهميش منعوك قبل أن تصل إلى أمك.. أخروك ليسقط في يدك عنفوان رغباتك، في ذروة توهج ألق الأم التي امتصت كل مآسي الوقت وحرقت سجائرها تشعل أتون رئتيها.
"أمي ماتت"
"البقية في حياتك"
لا تهم التفاصيل، ولا يغني اللقاء مع القائد ما فقده عازف اللحن الحزين، أنت العازف المنفرد الذي لا يخون، تتأبط سيفك/ قلمك، تمارس الحنين، والحنين هو السؤال المستفز؟
فإذا كان من الضروري حل ازدواجية الوطن، أفليس من الأولى أن نحل ازدواجية صورة العدو.
ومتى ينطبق واقع العدو على مثاله في العقلية الفلسطينية.
ألا ترى معي أن وطن الذاكرة مكننا من خط الحياة إلى اليوم وأن العدو المفترض، المقدر في عقليتنا، مارس علينا الغبش حتى أوقعنا في قطار أوسلو الذي لن يصل، فازدواجية العدو قاتلة لو استمرت.